روائع مختارة | قطوف إيمانية | عقائد وأفكار | مهـلاً قلوبنــــا ...

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > عقائد وأفكار > مهـلاً قلوبنــــا ...


  مهـلاً قلوبنــــا ...
     عدد مرات المشاهدة: 2110        عدد مرات الإرسال: 0

إن قلوبنا خلقت في هذه الدنيا وهي في مواجهة حالة من الكبد المستمر، قلوبنا تعيش منذ بداية وجودها معرضة للأحزان والآلام فهذه طبيعة الدنيا، وقلوبنا تمر بالأيام تعبرها لحظة بلحظة وساعة بساعة وهي معرضة للجروح والضغوط والقسوة والتجاهل، وكلما أرادت أن تجد لنفسها واحة من الأمان والسكينة لا تلبث أن تتلقى طعنة جديدة من طعنات الغدر أو موجة جديدة من موجات الألم والحزن.

قلوب البشر تعيش الدنيا في معاناة حقيقية وكاملة منذ البداية، فكل قلب على مستواه الخاص يبدأ في التعامل مع من حوله من الناس ومن الأحداث مع الزمان المتحرك والمكان المتغير، يتعامل القلب مع كل ذلك بدرجة عالية من البراءة والصفاء والطهر، ثم يكتشف كل فترة قصيرة أن الدنيا تكيل له الضربات، فهذه ضربة من عزيز قريب كان يجب ألا تصدر عنه كل هذه القسوة، وهذه هزة من إنسان ما كان ينبغي أن يغدر بالقلب هذا الغدر، وهذه أحداث قدرية وقعت وعصفت بهناء القلب وإستقراره وحنينه الدائم نحو الهدوء فلم يعد يستشعر الأمان أو يستطيع أن يتمالك نفسه وتحوطه الطمأنينة.

هذا القلب الذي عانى من الحزن والألم الذي كابد القسوة والتجاهل الذي تلقى ضربة وراء ضربة وهزته الدنيا هزات قوية، هذا القلب من البديهي والطبيعي أن تأتي عليه لحظات تشبه نقاط التحول المحورية المهمة الناقلة، فهي تنقله من مستوى البراءة والنقاء وهما دليلان على القوة الفطرية، إلى مستوى التلون والإلتواء وهما دليلان على الهروب والضعف.

القلب تحت وطأة الأحزان والآلام والغدر وإنهيار الشعور بالأمان يجد أن أصعب شيء عليه هو وجود ما يمكن أن نسميه: تعقل الإحساس، فليس المقصود هو الذكاء الفكري المحض، وليس المقصود كذلك هو المشاعر والإنفعالات المتدفقة، ولكن المقصود هو الأحاسيس والمشاعر المحكومة بعقل يفكر ويوجه ويسيطر، هذا الإحساس المتعقل كان يفترض فيه أن يكون الغاية التي يسير نحوها القلب في رحلته بهذه الدنيا يرنو إليها رغم كل ما عاناه من آلام وكل ما إعتراه من صدمات وأحزان وهزات، لأن القلب بوصوله إلى الإحساس المتعقل يكون قد إحتفظ بمكامن وجوده الأصلي ببرائته وصفائه ونقائه وفي الوقت نفسه إحتفظ بقدرته على المواجهة والقوة والثبات بدون البحث عن المهرب والمفر.

لكن القلوب ليست دائما كلها تكون ناجحة في عبور الأحزان والآلام نحو الإحساس المتعقل، وعندما تشتد عليها المعاناة تضحي أول ما تضحي بهذا الهدف المنشود، بل تعتبره بمثابة السجن الذي ستبقى داخل أسواره تتألم بلا نهاية وتخاف بلا حدود وتواجه كل أشباحها التي أفزعتها طوال الماضي، وبالتالي فإن هذا القلب الهارب من الإحساس المتعقل يريد أن يفصل فوراً بين عقله ومشاعره، يريد أن يضمن أن عقله وقدرته على الرؤية الواقعية لن يتدخلا في السيطرة على مشاعره وإنفعالاته وأحساسيسه، ويريد أن يكون شعوره هاربا نحو من يستطيع أن يشتريه ويأسره بشرط واحد فقط أن يضمن له إحساس الأمان حتى لو كان أمانا زائفا، من يضمن له الهدوء والتجمد أو الإنطلاق ولكن في إطار مرسوم ومحدد خال من الصدمات والهزات والآلام.

والدنيا نفسها مليئة بالدروب والأجواء والشخصيات التي تحب أن تأسر القلوب المتألمة وتجذب القلوب الحزينة وتسيطر على الأحاسيس المنفلتة من أي تعقل، الهاربة من كل محاولة للإنبضاط بضوابط العقل والحكمة، فعندما نضرب مثالا لذلك لا نجد أقرب من الدجال أو المشعوذ الذي يوجد في مدينة أو قرية ونتساءل ما السر الذي يجعل هذا الدجال لديه القدرة على أن يمارس تأثيره على الذاهبين إليه المترددين عليه، رغم أن بينهم من حصّل درجات علمية متقدمة، وبينهم من إمتلك سلطة دنيوية، وبينهم من بسطت له المتع والنعيم في الدنيا، والإجابة تتمثل في حقيقة أن هذا الدجال أو المشعوذ يرى نداءات القلوب المتألمة الهاربة من أحزانها، يلمس أن هناك قلبا ضاق بمعاناته وهمه وصدماته، يدرك أن هذا القلب حاول أن يصمد كثيرا بعد كل لحظة ألم وكل موقف قسوة وكل صدمة مر بها ولكنه في النهاية مال إلى الإنهيار وفضل الفرار وسعى للتخلص من تعقله وحكمته وضبط إنفعالاته على أمل أن يخلصه ذلك من مخاوفه، الدجال يدرك جيدا أن هذه هي طبيعة القلوب التي تتوجه إليه وتبحث عنده عما يريحها ويهدىء من خوفها الدائم والمستمر.

هذا المشعوذ أو الدجال بطبيعة الحال يمتلك من الذكاء الكثير ومن الحضور وسرعة البديهة الكثير، فهو قادر على التمثيل بشكل يبدو صادقا وهو قادر على إدعاء الرؤية النافذة والبصيرة الثاقبة، وهو يتمتع بثقة كبيرة في نفسه يحاول دائماً أن يوصلها لمن حوله بشكل تلقائي لمحاولة إكسابها درجة من المصداقية والعفوية، ولكن كل هذه السمات ما كان لها أن تؤثر إلا في القلب الذي هو بالفعل يريد أن يظل هاربا وفارا من الإحساس المتعقل، ما كان لكل هذه الصفات أن تؤثر سوى في القلب الذي فاض بها الحزن أو الخوف الذي يريد أن يتعلق في أي وهم ويعيش به ليل نهار، لأن الوهم سيكون الستار الذي يحيط نفسه به فلا يتلقى المزيد من الضربات ولا يضطر أن يواجه نفسه بالحقائق في الدنيا مجددا.

ما يقوله هذا المشعوذ أو الدجال ليس مهماً لأنه أشبه بالوعاء الخارجي الذي توضع فيه الأشياء المهمة لنا، فرغم أننا عندما نحمل الوعاء نكون ظاهريا ممسكين به بأيدينا إلا أننا في الحقيقة نهتم بما في داخل الوعاء، وكذلك كلمات الدجال وحديثه هي وعاء يبدو ظاهريا أننا نمسك به بأيدينا ونتشبث به بلهفة، لكن الحقيقة أن ما يهمنا هو ما وراء هذا الكلام والحديث وذلك هو التأثير النفسي الممتد الذي يمارسه هذا الشخص على القلب، فهذا الشخص يدرك أن عليه أن يستخدم مجموعة من الأدوات تجعله يحمل درجة من النقاء والطهر وإظهار الصدق ويعلم أن من جاء إليه إنما أتى يريد أن يضع قلبه في مكان معين ويرتاح عندئذ من عناء حمل همومه وآلامه، يدرك أن من جاء إليه لديه قلب مثقل بالمخاوف المفزعة المؤلمة ويريد من يتحمل عنه عبء هذا القلب، والدجال سرعان ما يبدي إستعدادا واضحا في إجتذاب هذا القلب فهو يعده ضمنيا بالأمان ويعده ضمنيا بالإحتواء ويبدو في كثير من الأوقات وكأنه يعلم ويتصور ما عاناه القلب وما مر به من أحزان وما كابده ليالي وأياما من مخاوف وهواجس، هو يوحي إلى صاحب هذا القلب أن لديه العلاج والشفاء ويحمل القلب الخائف الهارب من نفسه، يحمله عن صاحبه مبدأيا ثم يطالب صاحب هذا القلب ضمنيا بأن يسلمه عقله ببساطة شديدة لأن هذا هو الضامن الوحيد لكي يظل حاملا القلب المتألم الخائف، ويكون الأمر شديد الوضوح لمن يراه بتأمل، فالدجال يعرض بل ويحمل القلب الخائف الحزين المتألم الذي حضر إليه ويطلب من صاحب هذا القلب أن يتخلى عن قدرته على التعقل والتفكير وإتخاذ القرار.

لماذا توافق نفوسنا على هذه المقايضة؟ ولماذا نكون على إستعداد تام أن نهب عقولنا ونتخلى عن قدرتنا على إتخاذ القرار المبني على تعقلنا لمشاعرنا لغيرنا ممن يريد أن يقوم بهذا نيابة عنا؟ لماذا عندما ظلت قلوبنا تئن تحت وطأة آلام الدنيا وأحزانها وقسوتها ومخاوفها لماذا لم نظل متمسكين بنقاء قلوبنا محافظين على قوتها مصرين على العبور بها وهي بين ايدينا إلى شاطىء من الأمان والطمأنينة؟ لماذا نسارع دوما بالبحث عن كل دجال وعن كل مشعوذ جذاب في حديثه ذكي في إختياراته حاضرا مؤثرا يبدو لنا صادقا بطريقة تأثيره لكي نقدم له عقولنا مقابل أن نفر من آلام قلوبنا ومخاوفها؟ هل نسينا أننا لا يمكن أن نصل إلى ربنا الحق إلا عبر تعقل الإحساس؟ هل نسينا أن قلوبنا خلقت في هذا الكبد لتثبت أنها صلبة وقوية وطيبة ونقية لا تفر من المعركة ولا تضعف تحت شدة الأحزان والصدمات ولا تفر في مواجهة أي خوف أو فزع أو تنهار بسبب كثرة الجراح؟ إن وصولنا إلى ربنا على المنهج الحنيفي الحق مرتبط بأن نعيد النظر في كل من سلمنا إليهم عقولنا مقابل أن نتناسى مخاوف قلوبنا وأحزاننا وهمومنا؟ لابد ان نستعيد قدرتنا على التعقل ولا نخشى أن نراجع ذكريات الماضي كلها منذ البداية فنجتر الآلام والأحزان ونقف ثابتين في مواجهة مخاوف تعتصر قلوبنا، لابد أن نعود لذكرياتنا ولا نفر منها نواجه بصلابة وبحضور قلب صامد كل ما هربنا منه على مدار سنوات طويلة، لعلنا في لحظة ما نمتلك قدرة صافية على ضبط مشاعرنا وإنفعالاتها ونحكّم عقلنا ونجعله يحمي قلبنا ونصل بهما معا بالعقل والقلب إلى رب يستحق أن نقبل عليه بكياننا كله خالصين مخلصين.

الكاتب: أحمد عباس.

المصدر: موقع رسالة المراة.